فصل: مقدمــة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير **


والقول بأن جملة الحمد من صيغ الإنشاء شرعاً أو مشتركة بين الإخبار والإنشاء كصيغ العقود زيفه المولى حسن بأن تلك إخبارات لغوية نقلها الشرع إلى الإنشاء لمصلحة الأحكام وإثبات النقل في مثل ما نحن فيه بلا ضرورة ممنوع فقول البعض هو غير بعيد ناشئ عن عدم الإهتمام بتحرير المقام وبذلك نجز الكلام على الحمد‏.‏ وكأني بك تقول قد أبهمت في مقام التعيين وأجملت في محل التبيين حيث عرفت الحمد بأنه ‏"‏النعت بالجميل‏"‏ إلى آخره ولم تبين أن ذلك هو تعريفه اللغوي ولم تتعرض لما تطابقوا عليه من تعريفه عرفاً بأنه ‏"‏فعل ينبئ عن تعظيم المنعم‏"‏ فأقول لم أغفله من ذهول بل لأن جعلهم ذلك لغوياً وذا عرفياً قد تعقبه العلامة البخاري بالرد وأطنب بما منه أن هذا إنما هو اصطلاح لبعض المتكلمين وأن أهل اللغة والشرع قد تطابقوا على أن حقيقة الحمد الوصف بالجميل، قال‏:‏ فليس الحمد لغة أعم منه شرعاً على أن إطباق المفسرين على تفسير الحمد الواقع في القرآن بما فسره به أئمة اللغة دليل على تطابق الشرع واللغة وإلا لما صح تفسير الحمد الواقع في كلام الشارع به لما أن الألفاظ الواقعة في كلامه إذا كان لها معنى شرعي مغاير للمعنى اللغوي يجب حملها على المعنى الشرعي ولا يجوز حملها على المعنى اللغوي انتهى‏.‏ ثم لما كان الحمد من المصادر التي تنصب بأفعال مضرة والأحداث المتعلقة بالمحل المقتضية لانتسابها إليه والفعل أصل في بيان النسب كان حقه أن يلاحظ معه الفعل لكنه عدل إلى اختيار الإسمية إفادة الإنسان هو الجامع الصغير،‏.‏‏.‏‏.‏ ‏[‏ص 10‏]‏ للدوام والثبوت إجابة لمناسبة المقام كذا قرره التفتازاني، قيل وهو على حسنه لا يخلو كدر بالنسبة لخصوص المقام إذ لا تخفى حسن المناسبة بين القول المتجدد والحادث والفعل الدال على التجدد والحدوث فالتعبير بالفعلية أنسب وآثر المصنف الحمد على الشكر تحسيناً للبيان ببديع الاقتباس ولكونه أشبع للنعمة وأدل على مكانها لخفاء الاعتقاد وما في أعمال الجوارح من الاحتمال ومن ثم كان رأس الشكر ولفظ الجلالة على سائر الأسماء لتكون المحامد كلها مقرونة بمعانيها المستدعية لها فإنه اسم ينبئ عن جميع صفات الكمال لما أخبر بأنه تعالى حقيق بالحمد اعتبار ذاته المستجمع لجميع صفات الكمال وعامة نعوت الجلال حمد أم لم يحمد ونبه على استحقاقه له باعتبار أفعاله العظام وآثاره الجسام من ربوبيته للكل وشمول رحمته الظاهرة للجميع وخصوص رحمته الباطنة للمؤمنين وذلك لأن ترتب الحكم على الوصف كما يشعر بالعلية فكذا يشعر بها تعقيب الحكم بالوصف فكأنه قال حقيقة الحمد مخصوصة بذاته الواجبة الكاملة الشاملة‏.‏ وقدم الحمد لاقتضاء المقام مزيد اهتمام به وإن كان ذكر الله أهم ذكره التفتازاني واعترض ورد وإنما قدم فلله الحمد له الحمد لأنه ليس المقام مقام حمد‏.‏ ولما كان صدور هذا الجامع البديع الوضع المتكاثر الجمع الغريب الترتيب العجيب التبويب لا يحصله إلا من ارتقى إلى منازل الشرف وحل من طبقات الإجتهاد بأعلى الغرف افتتح غرة ذلك الكتاب الشريف وأومأ في طرة مطلعه المنيف إلى أنه هو ذاك القرم المبعوث على رأس القرن فقال ‏(‏الذي‏)‏ لكثرة جوده على هذه الأمة وإغزار إفضاله عليهم ‏(‏بعث‏)‏ أي أرسل يقال بعثت رسولاً أي أرسلته وبعثت العسكر وجهتهم للقتال، قال الراغب‏:‏ أصل البعث إثارة الشيء وتوجيهه يقال بعثته فانبعث ويختلف البعث بحسب اختلاف ما علق به‏.‏ فإن قلت‏:‏ كان الأولى أن يقول‏:‏ الباعث ليكون آتياً بلفظ اسم من الأسماء الحسنى صريحاً وما صح وصفه تعالى به لا يحتاج معه إلى الإتيان بالذي وإنما يتوصل به إلى إجراء وصف لم يرد به توقيف‏.‏

قلت اعتذر البعض عن نحوه بأن ذكر الموصول أدخل في التعظيم وأبلغ في الثناء على الله لدلالة جملة الصلة على الاستقرار في النفوس وإذعانها له ‏(‏على رأس‏)‏ أي أول ورأس الشيء أعلاه ورأس الشهر أوله قال في المصباح وهو مهموز في أكثر لغاتهم إلا بني تميم ‏(‏كل مئة سنة‏)‏ يحتمل من المولد النبوي أو البعثة أو الهجرة أو الوفاة ولو قيل بأقربية الثاني لم يبعد لكن صنيع السبكي وغيره مصرح بأن المراد الثالث وأصل سنة سنو لقولهم سنوات وقيل سنهة كجبهة لقولهم سانهته وفرق بعضهم بين السنة والعام بأن العام من أول المحرم إلى آخر ذي الحجة والسنة من كل يوم إلى مثله من القابلة ذكره ابن الخباز في شرح اللمع‏.‏ قال الراغب‏:‏ والمئة هي المرتبة الثالثة من أصول الأعداد لأن أصولها أربعة آحاد وعشرات ومئات وألوف ‏(‏من‏)‏ أي مجتهداً واحداً أو متعدداً قائماً بالحجة ناصراً للسنة له ملكة رد المتشابهات إلى المحكمات وقوة استنباط الحقائق والدقائق النظريات من نصوص الفرقان وإشاراته ودلالاته واقتضاآته من قلب حاضر وفؤاد يقظان‏.‏

قال الحراني‏:‏ ومن اسم مبهم يشمل الذوات العاقلة آحاداً وجموعاً واستغراقاً ‏(‏يجدد لهذه الأمة‏)‏ أي الجماعة المحمدية وأصل الأمة الجماعة مفرد لفظاً جمع معنى وقد يختص بالجماعة الذين بعث فيهم نبي وهم باعتبار البعثة فيهم ودعائهم إلا الله يسمون أمة الدعوة فإن آمنوا كلاً أو بعضاً سمى المؤمنون أمة إجابة وهم المراد هنا بدليل إضافة الدين إليهم في قوله ‏(‏أمر دينها‏)‏ أي ما اندرس من أحكام الشريعة وما ذهب من معالم السنن وخفي من العلوم الدينية الظاهرة والباطنة حسبما نطق به الخبر الآتي وهو‏:‏ ‏"‏إن الله يبعث‏"‏ إلى آخره وذلك لأنه سبحانه لما جعل المصطفى خاتمة الأنبياء والرسل وكانت حوادث الأيام خارجة عن التعداد ومعرفة أحكام الدين لازمة إلى يوم التناد ولم تف ظواهر النصوص ببيانها بل لا بد من طريق واف بشأنها اقتضت حكمة الملك العلام ظهور قرم من الأعلام في غرة كل قرن ليقوم بأعباء الحوادث إجراء لهذه الأمة مع علمائهم مجرى بني إسرائيل مع أنبيائهم فكان في المئة الأولى عمر بن عبد العزيز‏.‏ والثانية الشافعي‏.‏ والثالثة الأشعري أو ابن شريح‏.‏ والرابعة الاسفراييني أو الصعلوكي أو الباقلاني‏.‏ والخامسة حجة الإسلام الغزالي‏.‏ والسادسة الإمام الرازي أو الرافعي‏.‏ والسابعة ابن دقيق العيد ذكره السبكي وجعل الزين العراقي في الثامنة الأسنوي بعد نقله عن بعضهم أنه

‏[‏ص 11‏]‏ جعل في الرابعة أبا إسحاق الشيرازي‏.‏ والخامسة السلفي‏.‏ والسادسة النووي انتهى‏.‏ وجعل غيره في الثامنة البلقيني‏.‏ ولا مانع من الجمع فقد يكون المجدد أكثر من واحد‏.‏ قال الذهبي‏:‏ من هنا للجمع لا للمفرد فنقول مثلاً على رأس الثلاث مئة ابن شريح في الفقه والأشعري في الأصول والنسائي في الحديث وعلى الست مئة مثلاً الفخر الرازي في الكلام والحافظ عبد الغني في الحديث وهكذا‏.‏ وقال في جامع الأصول‏:‏ قد تكلموا في تأويل هذا الحديث وكل \أشار إلى القائم الذي هو من مذهبه وحملوا الحديث عليه‏.‏ والأولى العموم فإن من تقع على الواحد والجمع ولا يختص أيضاً بالفقهاء فإن انتفاع الأمة يكون أيضاً بأولي الأمر وأصحاب الحديث والقراء والوعاظ لكن المبعوث ينبغي كونه مشاراً إليه في كل هذه الفنون ففي رأس الأولى من أولي الأمر عمر بن عبد العزيز‏.‏ ومن الفقهاء محمد الباقر والقاسم ابن محمد وسالم بن عبد الله والحسن وابن سيرين وغيرهم من طبقتهم‏.‏ ومن القراء ابن كثير ومن المحدثين الزهري‏.‏ وفي رأس الثانية من أولي الأمر المأمون‏.‏ ومن الفقهاء الشافعي واللؤلؤي من أصحاب أبي حنيفة وأشهب من أصحاب مالك‏.‏ ومن الإمامية علي بن موسى الرضي، ومن القراء الحضرمي، ومن المحدثين ابن معين، ومن الزهاد الكرخي‏.‏ وفي الثالثة من أولي الأمر المقتدر، ومن المحدثين النسائي‏.‏ وفي الرابعة من أولي الأمر القادر‏.‏ ومن الفقهاء الاسفراييني الشافعي والخوارزمي الحنفي وعبد الوهاب المالكي والحسين الحنبلي، ومن المتكلمين الباقلاني وابن فورك، ومن المحدثين الحاكم، ومن الزهاد الثوري وهكذا يقال في بقية القرون‏.‏ وقال في الفتح‏:‏ نبه بعض الأئمة على أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل قرن واحد فقط بل الأمر فيه كما ذكره النووي في حديث‏:‏ ‏"‏لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق‏"‏ من أنه يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزاهد وعابد ولا يلزم اجتماعهم ببلد واحد بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد وتفرقهم في الأقطار ويجوز تفرقهم في بلد وأن يكونوا في بعض دون بعض ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولاً فأولاً إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد فإذا انقرضوا أتى أمر الله قال الحافظ ابن حجر‏:‏ وهذ متجه فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا تنحصر في نوع من الخير ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد إلا أن يدعى ذلك في ابن عبد العزيز فإنه كان القائم بالأمر على رأس المئة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها ومن ثم ذكر أحمد أنهم كانوا يحملون عنه الحديث وأما من بعده فالشافعي وإن اتصف بالصفات الجميلة والفضائل الجمة لكنه لم يكن القائم بشأن الجهاد والحكم بالعدل فعلى هذا كل من اتصف بشيء من ذلك عند رأس المئة هو المراد تعدد أم لا‏.‏ انتهى‏.‏ وأؤما المصنف هنا وصرح في عدة تآليفه بأن المجدد على رأس المئة التاسعة‏.‏ قال في بعضها‏:‏ ‏"‏قد أقامنا الله في منصب الاجتهاد لنبين للناس ما أدى إليه اجتهادنا تجديداً للدين‏"‏ هذه عبارة‏.‏ وقال في موضع آخر‏:‏ ‏"‏ما جاء بعد السبكي مثلي وفي آخر الناس يدعون اجتهاداً واحداً وأنا أدعي ثلاثاً‏"‏ إلى غير ذلك وقد قامت عليه في ومنه بذلك القيامة ولم تسلم له في عصره هامة وطلبوا أن يناظروه فامتنع وقال‏:‏ لا أناظر إلا من هو مجتهد مثلي وليس في العصر مجتهد إلا أنا كما حكاه هو عن نفسه وكتبوا له حيث تدعى الاجتهاد فعليك الإثبات ليكون الجواب على قدر الدعوى فتكون صاحب مذهب خامس فلم يجبهم‏.‏ قال العلامة الشهاب بن حجر الهيتمي‏:‏ لما ادعى الجلال ذلك قام عليه معاصروه ورموه عن قوس واحد وكتبوا له سؤالاً فيه مسائل أطلق الأصحاب فيها وجهين وطلبوا منه إن كان عنده أدنى مراتب الاجتهاد وهو اجتهاد الفتوى فليتكلم على الراجح من تلك الأوجه بدليل على قواعد المجتهدين فرد السؤال من غير كتابة عليه واعتذر بأن له اشتغالاً يمنعه في النظر في ذلك‏.‏ قال الشهاب الرملي‏:‏ فتأمل صعوبة هذه المرتبة أعني اجتهاد الفتوى الذي هو أدنى مراتب الاجتهاد يظهر لك أن مدعيها فضلاً عن مدعي الاجتهاد المطلق في حيرة من أمره فساد في فكره وأنه ممن ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء‏.‏ قال‏:‏ من تصور مرتبة الاجتهاد المطلق استحيا من الله تعالى أن ينسبها لأحد من أهل هذه الأزمنة بل قال ابن الصلاح ومن تبعه إنها انقطعت من نحو ثلثمئة

‏[‏ص 12‏]‏ سنة ولابن الصلاح نحو ثلثمئة سنة فتكون قد انقطعت من نحو ست مئة سنة بل نقل ابن الصلاح عن بعض الأصوليين أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل‏.‏ إلى هنا كلام الشهاب‏.‏ ثم قال‏:‏ وإذا كان بين الأئمة نزاع طويل في أن إمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي وناهيك بهما هل هما من أصحاب الوجوه أم لا كما هو الأصح عند جماعة فما ظنك بغيرهما بل قال الأئمة في الروياني صاحب البحر أنه لم يكن من أصحاب الوجوه هذا مع قوله ‏"‏لو ضاعت نصوص الشافعي لأمليتها من صدري‏"‏ فإذا لم يتأهل هؤلاء الأكابر لمرتبة الاجتهاد المذهبي فكيف يسوغ لمن لم يفهم أكثر عباراتهم على وجهها أن يدعى ما هو أعلى من ذلك وهو الاجتهاد المطلق‏؟‏ سبحانك هذا بهتان عظيم انتهى إلى هنا كلام الشهاب‏.‏ وفي الأنوار عن الإمام الرافعي‏:‏ ‏"‏الناس اليوم كالمجمعين على أنه لا مجتهد اليوم‏"‏ وقال عالم الأقطار الشامية ابن أبي الدم بعد سرده شروط الاجتهاد المطلق‏:‏ ‏"‏هذه الشرائط يعز وجودها في زماننا في شخص من العلماء بل لا يوجد في البسيطة اليوم مجتهد مطلق‏"‏ هذا مع تدوين العلماء كتب التفسير والسنن والأصول والفروع حتى ملأوا الأرض من المؤلفات صنفوها ومع هذا فلا يوجد في صقع من الأصقاع مجتهد مطلق بل ولا مجتهد في مذهب إمام تعبر أقواله وجوهاً مخرجة على مذهب إمامه، ما ذاك إلا أن الله تعالى أعجز الخلائق عن هذا إعلاماً لعباده بتصرم الزمان وقرب الساعة وأن ذلك من أشراطها وقد قا شيخ الأصحاب القفار‏:‏ مجتهد الفتوى قسمان أحدهما من جمع شرائط الاجتهاد وهذا لا يوجد والثاني من ينتحل مذهباً واحداً من الأئمة كالشافعي وعرف مذهبه وصار حاذقاً فيه بحيث لا يشذ عنه شيء من أصوله فإذا سئل في حادثة فإن عرف لصاحبه نصاً أجاب عليه وإلا يجتهد فيها على مذهبه ويخرجها على أصوله وهذا أعز من الكبريت الأحمر فإذا كان هذا القفار مع جلالة قدره وكون تلامذته وغلمانه أصحاب وجوه كل مذهب فكيف بعلماء عصرنا‏؟‏ ومن جملة غلمانه القاضي حسين والفوراني والد إمام الحرمين والصدلاني والسنجي وغيرهم وبموتهم وموت أصحاب أبي حامد انقطع الاجتهاد وتخريج الوجوه من مذهب الشافعي وإنما هم نقلة وحفظة فأما في هذا الزمان فقد خلت الدنيا منهم وشغر الزمان عنهم‏.‏ إلى هنا كلام ابن أبي الدم‏.‏ وقال فقيه العصر شيخ الإفتاء والتدريس في القرن العاشر شيخنا الشمس الرملي عن والده شيخ الإسلام أبي العباس الرملي أنه وقف على ثمانية عشر سؤالاً فقهية سأل عنها الجلال من مسائل الخلاف المنقولة فأجاب عن نحو شطرها من كلام قوم من المتأخرين كالزركشي واعتذر عن الباقي بأن الترجيح لا يقدم عليه إلا جاهل أو فاسق قال الشمس فتأملت فإذا أكثرها من المنقول المفروغ منه فقلت سبحان الله رجل ادعى الاجتهاد وخفى عليه ذلك‏؟‏ فأجبت عن ثلاثة عشر منها في مجلس واحد بكلام متين من كلام المتقدمين وبت على عزم إكمالها فضعفت تلك الليلة فعددت ذلك كرامة للمؤلف وليس حكايتي لذلك من قبل الغض منه ولا الطعن عليه بل حذراً أن يقلده بعض الأغبياء فيما اختاره وجعله مذهبه سيما ماخالف فيه الأئمة الأربعة اغتراراً بدعواه هذا مع اعتقادي مزيد جلالته وفرض سعة إطلاعه ورسوخ قدمه وتمكنه من العلوم الشرعية وآلاتها وأما الاجتهاد فدونه خرط القتاد وقد صرح حجة الإسلام بخلو عصره عن مجتهد حيث قال في الإحياء في تقسيمه للمناظرات ما نصه‏:‏ ‏"‏أما من ليس له رتبة الاجتهاد وهو حكم كل العصر فإنما يفتي فيه ناقلاً عن مذهب صاحبه فلو ظهر له ضعف مذهبه لم يتركه‏"‏ انتهى وقال في الوسيط‏:‏ هذه الشروط يعني شروط الاجتهاد المعتبرة في القاضي قد تعذرت في عصرنا‏.‏ وهنا تنبيه ينبغي التفطن له وهو أن كل من تكلم على حديث ‏"‏إن الله يبعث‏"‏ إلخ إنما يقرره بناء على أن المبعوث على رأس القرن يكون موته على رأسه وأنت خبير بأن المتبادر من الحديث إنما هو أن البعث وهو الارسال يكون على رأس القرن أي أوله ومعنى إرسال العالم تأهله للتصدي لنفع الأنام وانتصابه لنشر الأحكام وموته على رأس القرن أخذ لا بعث فتدبر بانصاف‏.‏ ثم رأيت الطيبي قال‏:‏ المراد بالبعث من انقضت المئة وهو حي عالم مشهور مشار إليه‏.‏ والكرماني قال‏:‏ قد كان قبيل كل مئة أيضاً من يصحح ويقوم بأمر الدين وإنما المراد من انقضت المئة وهو حي عالم مشار إليه‏.‏ ولما كان ربما يتوهم من تخصيص البعث برأس القرن أن القائم بالحجة لا يوجد إلا عنده أردف ذلك بما يبين أنه قد يكون في أثناء المئة من هو كذلك بل قد يكون أفضل من المبعوث على الرأس وأن تخصيص الرأس إنما هو لكونه مظنة انخرام علمائه غالباًوظهور البدع ونجوم

‏[‏ص 13‏]‏ الدجالين فقال ‏(‏وأقام‏)‏ أي نصب وسخر‏.‏ قال الراغب‏:‏ القيام على أضرب‏:‏ قيام بالشخص إما بتسخير أو باختيار وقيام هو المراعاة للدين والحفظ له وقيام هو العزم على الشيء ومنه‏:‏ ‏{‏كونوا قوامين لله‏}‏ ‏{‏أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت‏}‏ أي حافظ وقوله ‏{‏إلا ما دمت عليه قائماً‏}‏ أي على طلبه ‏(‏في كل عصر‏)‏ بفتح أو ضم فسكون وبضمتين أي زمن والعصر الدهر كما في الصحاح والوقت كما في الأساس يقال‏:‏ ما فعلته عصراً أو بعصر أي في وقت ‏(‏من يحوط‏)‏ بضم الحاء الحيطة وهو المراعاة والصيانة والحفظ ‏(‏هذه الملة‏)‏ أي يصون ويحفظ هذه الطريقة المحمدية والسنن الإسلامية ويهتم بالذب عنها ويبالغ في الاحتياط غير مقصر ولا متوان‏.‏ ففي الصحاح حاطه كلأه ورعاه وفي الأساس تعاهد واهتم بأمره‏.‏ ومن المجاز أحاط به علماً أتى على أقصى معرفته كقولك علمه علم إحاطة إذا علمه من جميع وجوهه ولم يفته شيء منه ومنه فلان يحوط بيضة الإسلام وبيضة قومه‏.‏ وفي المفردات الإحاطة تستعمل في الأجسام نحو أحطت بمكان كذا وفي الحفظ نحو‏:‏ ‏{‏إلا إنه بكل شيء محيط‏}‏ أي حافظ لجميع جهاته‏.‏ والملة قال الزمخشري‏:‏ الطريقة المسلوكة ومنه ملة إبراهيم خير الملل وامتل فلان ملة الإسلام‏.‏ وقال القاضي هي ما شرع الله لعباده على لسان أنبياءه من أمللت الكتاب إذا مليته وقال الحراني‏:‏ ما يدعو إليه العقل المبلغ عن الله توحيده من ذوات الحنفيين والدين الإسلام والإسلام إلقاء ما باليد ظاهراً وباطناً وذلك إنما يكون عن بادئ عين التوحيد اهـ‏.‏ وقال الراغب‏:‏ الدين والملة اسمان بمعنى يتفقان من وجه ويختلفان من وجه فاتفاقهما أنهما اسم لاعتقادات وأقوال وأفعال تأثرها أمم من الأمم عن نبيهم يرفعها إلى الله واختلافهما من وجهين أحدهما أن الدين إذا اعتبر بمبدئه فهو الطاعة والانقياد نحو ‏{‏في دين الملك‏}‏ وإذا اعتبر بمغزاه ومنتهاه فهو الجزاء كخبر‏:‏ ‏"‏ كما تدين تدان‏"‏ والدين تارة يضاف إلى الله تعالى وأخرى إلى العبد والملة من أمللت الكتاب أي أمليته وتضاف إلى الإمام الذي تسند إليه نحو ملة إبراهيم ولا تكاد توجد مضافة إلى الله ولا إلى آحاد أمة النبي لا يقال ملة الله ولا ملتي ولا ملة زيد كما يقال دين الله وديني ودين زيد الثاني أن الدين يقال لكا من الاعتقاد والقول والفعل أنه دين الله ولا يقال ملة إلا باجتماع ذلك كله وأما الشريعة فالطريقة المتوصل بها إلى صلاح الدارين تشبيهاً بشريعة المار بالطريق الشارع انتهى‏.‏ وبه يعلم أن من فسر الملة هنا بالدين أو الشريعة لم يصب ‏"‏بتشييد أركانها‏"‏ أي بإعلاء أعلامها ورفع منارها وإحكام أحكامها، وتشييد الرفع والتأييد أو الإحكام والاتقان‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ شاد القصر وأشاده شيده ورفعه، وقصر مشيد وقيل مشيد المعمول بالشيد وهو الجص بكسر الجيم ومن المجاز أشاد بذكره رفعه بالثناء عليه وأشاد عليه أثنى عليه مكروهاً وأركان الشيء جوانبه التي عليها مبناه وبتركها بطلانه ذكره الراغب‏.‏ فإثبات الأركان للملة مجاز قال الزمخشري‏:‏ ومن المجاز فلان يأوي من عز قومه إلى ركن شديد ‏(‏تأييد سننها‏)‏ تقويتها من الأيد وهو القوة الشديدة ومنه قيل للأمير المعظم مؤيد والسنن جمع سنة وهو لغة الطريقة وقال الزمخشري‏:‏ سن سنة حسنة طرق طريقة حسنة واستسن سنة وفلان مستسن عامل بالسنة وعرفاً قول المصطفى وفعله وتقريره قال ابن الكمال المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً كان أو قولاً بخلاف الحديث فإنه مخصوص بالأول ‏(‏وتبيينها‏)‏ أي توضيحها للناس من أبان الشيء أوضحه ومنه بان أي اتضح واستبان ظهر واستبينته عرفته‏.‏ قال الحراني‏:‏ والتبيين اقتطاع الشيء بما يلابسه ويداخله والمراد المبالغة في البيان بما تفهمه صيغة التفعيل‏.‏ وقال الراغب‏:‏ البيان الكشف عن الشيء وهو أعم من النطق وسمي الكلام بياناً لكشفه عن المعنى المقصود‏.‏ وقال المولى خسرو‏:‏ التبين أعم من أن ينص بالمقصود أو يرشد لما يدل عليه كالقياس ودليل الفعل ولما أقام البراهين على استحقاقه تعالى وتقدّس لمجامع المحامد وصفات الكمال شهد له باستقاق الألوهية وإثباتها ونفيها عما سواه إشارة إلى أن تلك الشهادة الشريفة داخلة فما أقيمت البراهين على استحقاقه تعالى إياه بل استحقاق الألوهية أجل ظهوراً ومن ثم عطفه على الحمد فصرح بما علم التزاماً من سياق التنزيه قبله فقال ‏(‏وأشهد‏)‏ إلخ ومن مرسومه أنه التصريح بدلالة مفهوم المنطوق لدفع احتمال توهم غيره أو لحديث أبي داود كل خطبة

‏[‏ص 14‏]‏ ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء بذال معجمة‏.‏ وأصل الشهادة لغة مأخوذة من المشاهدة والمعاينة ثم نقلت شرعاً إلى الإخبار بحق الغير عن عيان ثم نقلت إلى العلم بكثرة كما هنا وكذا حيث أطلقت في سائر الكتب فتلك ثلاث انتقالات إذ معناها هنا أعلم ذلك بقلبي وأبينه بلساني قاصداً به الإنشاء حال تلفظه وكذا سائر الأذكار والتنزيهات ‏(‏أن لا إله‏)‏ أي لا معبود بحق ‏(‏إلا الله‏)‏ جمع في الشهادتين بين النفي والإثبات مع تنزيه الإله الحق المثبت له ذلك عما لا يليق بكمال جلال وحدانيته ‏(‏وحده‏)‏ نصب على الحال بمعنى منفرداً وكذا حيث وقع إلا ما استنثى منه كقولهم في المدح للعلامة نسيح وحده بكسر الحاء وفي الذم لضعف الرأي عبير وحده وجيحش وحده ووجيه وحده محتمل للمدح والذمّ ‏(‏لا شريك‏)‏ أي لا مشارك ‏(‏له‏)‏ إذ الشريك من المشاركة وهي المعاونة والمساعدة في الشيء أو عليه وذلك ينافي الألوهية وهو تأكيد لتوحيد الذات والمتوحد ذو الوحدانية وزاد مقام الخطاب بالثناء توضيحاً وتقريراً بقوله ضرورة احتياجه إلى الغير فانتفائه ضروري قطعاً وهو توكيد لتوحيد الأفعال رداً على المعتزلة ثم قيد الشهادة بما يفيد إثبات جزمه وقوة قطعه وعدم تزلزله فقال ‏(‏شهادة يزيح ظلام الشكوك صبح يقينها‏)‏ أي أشهد به شهادة ثابتة جازمة يزيل نوراً اعتقادها ظلمة كل شك فهو استعارة بالكناية لكونه نطقه بالشهادة نشأ عن جزم قلبه وعقد لبه عليها لأن نور اليقين لما كان واقعاً لظلمات تشكيكات العدو اللعين شبه بضوء الصبح المنتشر المرتفع عند تنحيته لظلام الليل بجامع أن كلاً منهما مزيل للظلمات ومحصوله الإخبار عن قوة إيقانه وغلبة سلطان إيمانه على جنانه بحيث بلغ من مقامات القوة مبلغاً عظيماً إلى اليقين وإن كان اعتقاداً جازماً مطابقاً للواقع لا يزول بالتشكيكات لكنه متفاوت قوة وضعفاً عند المحققين بشهادة الوجدان إذ الجزم بطلوع الشمس عند الرؤية أقوى من الجزم بالعاديات‏.‏ ثم عطف الشهادة الثانية على الأولى فقال ‏(‏وأشهد‏)‏ إلى آخره إذ الإتيان بالشهادتين على الترتيب شرط كما هو مذكور في شروط الإسلام الخمسة وهي العقل والتكليف والإتيان بالشهادتين وكونهما مرتبتين وكون ذلك بالاختيار في حق غير الحربي والكلام على هذه الشهادة كالذي قبلها وكانتا بالعطف دونه في الأذان لأنهما فيه تأكيد هنا تعبد ‏(‏أن سيدنا‏)‏ معشر الآدميين أي أشرفنا وأكرمنا على ربه والسيد المتولي للسواد أي الجماعة الكثيرة ويضاف ‏'‏لى ذلك فيقال سيد القوم ولا يقال سيد النوب وسيد الفرس ويقال ساد القوم يسودهم‏.‏ ولما كان من شرط المتولي للجماعة الكثيرة كونه مهذب النفس قيل لكل من كان فاضلاً في نفسه وإطلاق السيد على النبي صلى الله عليه وسلم موافق لحديث ‏"‏أنا سيد ولد آدم‏"‏ ولكن هذا مقام الإخبار بنفسه عن مرتبته ليعتقد أنه كذلك وأما في ذكره والصلاة عليه فقد علمهم الصلاة عليه لما سألوه عن كيفيتها بقوله ‏"‏قولوا اللهم صل على محمد‏"‏ فلم يذكر لفظ السيد وقد تردد ابن عبد السلام في أن الأفضل ذكر السيد رعاية للأدب أو عدم ذكره رعاية للوارد ‏(‏محمداً‏)‏ عطف بيان لا صفة لتصريحهم بأن العلم ينعت ولا ينعت به ذكره بعض علماء الروم قال وما ذكره الكشاف في ‏{‏ذلكم الله ربكم‏}‏ أنه يجوز إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان وربكم خبر إنما يصح بناء على تأويله والمعرف باللام وإلا فتجويز نعت اسم الإشارة بما ليس معرفاً بها وما ليس بموصول مجمع على بطلانه ولا بدل لأن البدلية وإن جوزت في ‏{‏ذكر رحمة ربك عبده زكريا‏}‏ لكن القصد الأصلي هنا إيضاح الصفة السابقة وتقرير النسبة تبع والبدلية تستدعي العكس وهو اسم مفعول من التحميد وهو المبالغة في الحمد يقال حمدت فلاناً أحمده إذا أثنيت على جميل خصاله ويقال فلان محمود فإذا بلغ النهاية وتكاملت فيه المحاسن فهو محمد لكن ذكر بعض المحققين أنه إنما هو من صيغ المبالغة باعتبار ما قيل فيه من معنى الكثرة وبخصوصه لا من جهة الصفة إذ لا يلزم من زيد مفضل على عمرو المبالغة في تفضيله عليه إذ معناه له جهة تفضيل عليه وبفرض كونه للتكثير لا يلزم منه المبالغة لأنها تجاوز حد الكثرة ولحصرهم صيغ المبالغة في عدد مخصوص وكونه أجل من حمد وأفضل من حمد لا يستلزم وضع الاسم للمبالغة لأن ذلك ثابت له لذاته وإن لم يسم به، نعم المناسبة قائمة به مع ما مر من دلالة البناء عرفاً على بلوغ النهاية في ذلك الوصف ‏(‏عبده‏)‏ قدمه لكون العبودية مفتاحاً لكل باب كمال ففي ذكره من استحقاق الرحمة واستجلاب الرفعة

‏[‏ص 15‏]‏ وترتب الشفقة ما ليس من غيره ولما فيه من الإيماء إلى أن مرتبة النبوة وهبية لا كسبية ولأن العبودية في الرسول لكونها انصرافاً من الخلق إلى الحق أجل من رسالته لكونها بالعكس ولأن الكمال المستفاد من العبودية بما تستنزل به الكمالات وتستمطر به البركات بحكم ‏"‏من تواضع لله رفعه الله‏"‏ ولأن العبد يتكفل مولانا بإصلاح شأنه والرسول يتكفل بمولاه بإصلاح شأن الأمة وكم بينهما وإضافته إليه تعالى تشريفاً للمضاف أي تشريف وتنبيهاً على أن لهذا اللفظ الخاص كمال الاختصاص، والعبد لغة الإنسان حراً أو قناً، وعرفاً المكلف يعني من هو جنس المكلفين ولو صبياً أو جنيناً ‏(‏ورسوله‏)‏ إلى كافة الثقلين والملائكة أو إلى الأولين خاصة‏؟‏ وعليه الحليمي والبيهقي بل حكى الرازي والنسفي الإجماع عليه لكن انتصر محققون منهم السبكي بالتعميم بآية ‏{‏ليكون للعالمين نذيراً‏}‏ أو خبر ‏"‏أرسلت إلى الخلق كافة‏"‏ ونازعوا فيما حكى بأن البيهقي نقله عن الحليمي وتبرأ منه والحليمي وإن كان سنياً لكن وافق المعتزلة في تفضيل الملك على البشر فظاهر حاله بناؤه عليه وبأن الاعتماد على تفسيرهما في حكاية الإجماع انفرادها لحكايته لا ينهض حجة عند أئمة النقل لأن مدارك نقل الإجماع إنما تتلقى من كلام حفاظ الأمة وأصحاب المذهب المتبوعة ومن يلحق بهم في سعة دائرة الإطلاع والحفظ والإتقان والشهرة عند علماء النقل والرسول والنبي طال فيما بينهما من النسبة الكلام، والمحققون كما قال ابن الهمام كالزمخشري والعضد والتفتازاني والشريف الجرجاني على تراد فهما وأنه لا فارق إلا الكتاب قال الزمخشري‏:‏ الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو إلى شرع من قبله انتهى، وقال في المقاصد‏:‏ النبي إنسان بعثه اللهلتبليغ ما أوحى إليه قال وكذا الرسول‏.‏ قال الكمال ابن أبي شريف‏:‏ هذا ينبئ عن اختياره للقول بترادفهما‏.‏ وفي شرح العقائد بعد ما ذكر أنه لا يقتصر على عدد في تسمية الأنبياء ما نصه‏:‏ وكلهم كانوا مبلغين عن الله تعالى لأن هذا معنى النبوة والرسالة، قال الكمال ابن أبي شريف هذا مبني على أن الرسول والنبي واحد، وقال الإمام الرازي في تفسيره ولا معنى للنبوة والرسالة إلا أن يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم‏.‏ وفي المواقف وشرحه في السمعيات‏:‏ النبي من قال له الله تعالى أرسلتك إلى قوم كذا أو إلى الناس جميعاً أو بلغهم عني أو نحوه ولا يشترط في الإرسال شرط وفيه في شرح الديباجة‏:‏ الرسول نبي معه كتاب والنبي غير الرسول من لا كتاب معه بل أمر بمتابعة شرع من فبله كيوشع‏.‏ قال المولى خسرو تبع - يعني الشريف - صاحب الكشاف في تفسير الرسول واعتراضه بأنه لا يوافق المنقول في عدد الرسل والكتب إذ الكتب نحو مئة والرسل أكثر من ثلاث مئة مدفوع بأن مراده بمن معه كتاب أن يكون مأموراً بالدعوة إلى شريعة كتاب سواء أنزل على نفسه أو على نبي آخر‏.‏قال‏:‏ والأقرب أن الرسول من أنزل عليه كتاب أو أمر بحكم لم يكن قبله وإن لم ينزل كتاب والنبي أعم لما في ذلك من النقص عما أورد على الأول من أنه يلزم عليه أن يكون من بعث بدون كتاب ولا متابعة من قبله خارجاً عن النبي والرسول معاً، اللهم إلا أن يقال إنه لا وجود لمثله انتهى‏.‏ وقال الشيباني في شرح اللفه الأكبر‏:‏ الرسول من بعث بشرع مجدد والنبي يعمه ومن بعث بتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين بين موسى وعيسى ومن ثم شبه النبي صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم‏.‏ قال‏:‏ فإن قيل كيف يصح هذا وقد قال تعالى‏{‏ولقد أتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل‏}‏ وقد بين ذلك في الكشاف بالأنبياء بين موسى وعيسى‏.‏ قلت‏:‏ لعل المراد بالرسل في الآية المعنى اللغوي‏.‏ وقال ابن عطاء الله من الناس من ظن أن النبي الذي هو نبي في نفسه والرسول هو الذي أرسل لغيره وليس كما ظن ولو كان كذلك فلماذا خص الأنبياء بالذكر دون الرسل في قوله ‏"‏علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل‏"‏ ومما يدل على بطلان هذا المذهب قوله تعالى ‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي‏}‏ الآية فدل على أن حكم الإرسال يعمهما وإنما الفرق أن النبي لا يأتي بشريعة جديدة وإنما يجيء مقرراً لشرع من قبله ولهذا قال المصطفى ‏"‏علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل‏"‏ ‏(‏الحديث متكلم فيه والصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏العلماء أمناء الرسل‏"‏ الحديث ‏"‏والعلماء أمناء الله على خلقه‏"‏‏)‏ أي يأتون مقررين ومؤكدين وآمرين بما جئت به لا بشرع جديد‏.‏ وقال الصفوي‏:‏ اختار بعض المحققين أن الرسول نبي أتاه الملك - وقيل جبريل - بوحي لا نوم ولا إلهام والنبي أعم

‏[‏ص 16‏]‏ واعترض بعدم شموله لما لم يكن بواسطة كما هو ظاهر المنقول في موسى قبل نزول الملك عليه ورفعه بأنه يصدق عليه أنه أتاه في وقت لا ينجع إذ يلزم أن يكون النبي قبل البعثة رسولاً حقيقة ولا قائل به‏.‏ وقد أفاد ما قرره المحققان التفتازاني والجرجاني أن مجرد الإيحاء لا يقتضي نبوة إنما المقتضي لها إيحاء بشرع وتكليف خاص فخرج من بعث لتكميل نفسه كزيد بن نفيل ومن ثم قيل ونعم ما قيل يعتقد كثير أن النبوة مجرد الوحي وهو باطل وإلا لزم نبوة نحو مريم وآسية والتزامه شاذ‏.‏ وما أورد على التقتازاني من أن قوله‏:‏ النبي من بعث لتبليغ ما أوحي إليه أو أن شرع غيره المشير إليه فيما أوحي إليه في الجملة‏.‏ ومن هذه النقول اللامعة والمباحث الجامعة عرف صحة عزو العلامة ابن الهمام القول بالترادف إلى المحققين وأن الإمام الشهاب ابن حجر قد انحرف هنا عن صوب الصواب حيث حكم على من زعم الاتحاد بالغلط‏.‏ ونسب الكمال ابن الهمام إلى الاسترواح في نقله والسقط ثم قال‏:‏ إن الذي في كلام أئمة الأصوليين خلاف الاتحاد قال رأي المحققين خلاف هؤلاء فإن أراد أن محققي أئمة الأصوليين خلاف العضد والتفتازاني والجرجاني وأن هؤلاء ليسوا بمحققين فهذا شيء لا يقوله محصل وإن أرادهم فهذه نصوصهم قد تليت عليك ولسنا ننازعه في أن المشهور بين الفقهاء ما ذكره الحليمي من التغاير وأن الفارق الأمر بالتبليغ إنما الملام في إقدامه على تغليط ذلك المحقق ونسبته ‏'‏لى الغفول عن كلام المحققين من رأس القلم ‏(‏تتمة‏)‏ قال بعض الأكابر لم يشتغل الأكثر بتعريف النبوة والرسالة بل بالنبي والرسول وقد عرفهما الأسد بن الأسد إمام الحرمين في قوله النبوة لا تكون عن قوة في النفس كما قاله الحكماء ولا عن رياضة يحصل بها الصفاء فيحصل التجلي في النفس كما قاله بعض الصوفية ولا عن قربان الهياكل السبعة كما قاله المنجمون ولا هي بالإرث كما قاله بعض أهل البيت ولا هي علم المرء بربه لأنه عام ولا علم النبي بكونه نبياً لتأخره بالذات عنها بل هي صفة كلامية هي قول الله تعالى هو رسولي وتصديقه بالأمر الخارق‏.‏

إلى هنا كلامه‏.‏ وقال الراغب‏:‏ النبوة قيل سفارة العبد بين الله وبين خلقه وقيل إزاحة علل ذوي العقول فيما تقصر عنه عقولهم من مصالح المعاش والمعاد‏.‏ وجمع بعض المحققين بينهما فقال‏:‏ سفارة بين الله وبين ذوي الألباب لإزاحة عللهم فيما يحتاجون من مصالح الدارين وهذا حد كامل جامع بين المبدأ في المقصود بالنبوة وهي الخصوصية وبين منتهاها وهي إزاحة عللهم انتهى‏.‏